(عقدة الحدّار).. والرقيب الضمني!

عقدة الحدار
تحيّرتُ بدءًا في الصيغة التي تكون عليها هذه القراءة، أتستقل بالنقد التطبيقي الذي يضع جسد الرواية تحت مباضع صاغها بروب أو غريماس أو بارت وأخيرا تودوروف؟ أم تشرع الذائقة أجنحتها في سماء الرواية فتتلقف المواطن التي نظرت إليها في تحليقها وتبصّر بما استحسنته أو ساءها، فلا تحدّها المصطلحات المتغازرة في تحليل يسرف في العلمية حتى يذهب بجمال الكل.
لكنّ الرأي استقل في نهاية الأمر على أن تكون الذائقة هي الدليل، أما المعرفة النقدية فخريطة هادية للحكم الفصل بين ذائقةٍ ذاتية تخشى أن تجور، وموضوعية مزعومة مما لا يزال نقّاد الأدب يطاردون ثباتها الذي تخضع له النصوص على السواء؛ لم أرَ أن يكون محلّها في تدوينة تثقلها تلك المصطلحات.
جاءت قرائتي للرواية بعد أن مضى زمنٌ ليس يسيرًا على القطيعة التي حجبتني عن النتاج الروائي العربي –فضلا عن المحلّي- لأمور ذاتيّة أكسبتنيها التجارب القرائية الأولى؛ إذ خرجت بخلاصة بعد قراءات وافرة لروايات عربية خلصت منها أنها كإبل مائة، قلّما تجد فيها راحلة. فاقتصرت في مقروئي الروائي على أمهات هذا الفن من أواخر ما صدر عن العالمين الغربي أو ما سواه من العوالم التي التمعت فيها أسماء حققت مجدًا في هذا الفن.
إلا أنّ عينًا لم تغمض لي بقيت ترقب من بعيد ما يصدر في المحيط العربي ويبرز، فأيقنت يقينًا رسّخته المشاهدة وصدى ما تتركه تلك الإصدارات على المشهد الثقافي والنقدي، أن التجربة الروائية في محيطنا العربي –بخاصة- تعدّ من أخطر التجارب الأدبية على الروائي العربي، فإن شاء كاتبٌ اقتحام ميدانها، فعمله يشبه أنه يختار التورط في مغامرة مخيفة في أدغال مزروعة بالشوك والمجهول؛ لما يحفّه من تحديات شتى، ربما أبرزها تتجلى في منافسة النتاج المترجم ذي المستوى الرفيع، وبلوغ المنزلة المرضية باستثمار معطيات واقعه التاريخي والاجتماعي وما يصله بقرائه ويعبّر عن واقعه، يضاف إلى ذلك شدة الحاجة إلى بصيرة يقظة بأدوات هذا الفنّ المستحدث مع التمتع بموهبة لا انطلاق لروح كاتبها من غيرها.
هذه المخاطرة واليقظة بمخاوفها رأيتها أنصع ما تكون في فاتحة رواية (عُقدة الحدّار) حتى إنك تجد اللغة المترقبة المشحونة بالريبة والخوف، والعبارات المتلفتة المذعورة تلك التي كتب بها صاحبها استهلاله للرواية، تذكرك بمخاوف (الرقيب الضمني)* فكأنها تنبئ عن شعور الروائي في رهبته التي يخفيها، من الشروع بقالب فنّي وجد نفسه منساقًا إليه؛ إذ أصبح هذا القالب الفنّي هو ديوان شعر الأمم -على اختلافها في العصر الحديث- بعد أن أفل نجم القصيدة.
فانظر مثلًا إلى أن الخوف يتجاوز راوي الحكاية، فيصل إلى (ورق المخطوط) الذي دُوّنت فيه تلك الحكاية المنسوبة لشخصٍ مغمور، ذلك الشخص ليس إلا أنموذجًا للبدوي الذي عاش في مرحلة هي الأخرى مغمورة وغامضة في التاريخ، لا نكاد نعلم عنها إلا ما تركته ذاكرة الآباء تسلسل من أفواههم الحكايات فتزيد وتنقص، وتقترب وتبتعد من الواقع والخيال معًا.
يختار خليف الغالب أن يتولى سرد حكايته (راوٍ مشارك) من ضمن شخصيات الرواية، يشهد الوقائع ويتصدى بتخليدها في (المخطوط= الخائف) هذا الراوي منتزع من بيئة مضادة لبيئة البطل، إنها الحضارة في صورة (عبداللطيف البصري) التي تكفلت بحفظ ذاكرة (البداوة والبطولة لمطلق) وعلى مدى الرواية تبرز الحضارة في صورة عداء خفيّ مع البداوة.
يبتدئ الراوي السرد في تردد وتخوف لا يُعلم منشؤه، فيلقي على القارئ حمولة من الأوصاف الدالة على غرابة الحكاية، وتسببها بجملة من المتاعب كالأرق والتشتت الذهني، والتحيّر الملحّ الذي حال دون جريان حياته على صورتها، مما أجد معه مبالغةً في رسم تلك المشاعر قبل أن أتلقى شيئًا يجعلني أسوغ للراوي شعوره، ففرض الحالة النفسية بتلك الرهبة المبالغ بها على القارئ بالتكرار المتعاقب لم يكن له معنى في الرواية.
ولكي تخرج تلك الشخصية التي جُعلت مؤتمنةً في نقل أحداث الرواية وتصويرها واقعًا حقًّا من حصارها التي تطالب به بالدقة في النقل، فإنها تسرف في التسويغات والاعتذارات، قبل أن تنبلج أضواء الأحداث، فبَدَت التوطئة للحكاية مثقلة بالضبابية عوض أن يمسك بيد القارئ لتوطئة واضحة تجعل للغموض لذّته بعد ذلك، كما كان الاعتماد فيها على اللغة  الشعرية والمقطوعات الرمزية -التي وإن حسنت لغةً وتصويرًا-، إلا أن سياقها من السرد كان مجحفًا بحقّها وبحقّ السرد معًا.
أما بعد أن تبتدئ الحكاية مجراها ويسترسل الراوي في القصّ، فتجد أنه محسنٌ في تصوير البيئة المادّية المحيطة؛ إحسانًا يجعلها ماثلة أمامك رأي العين، لكن تيار السرد يفاجئك بالسرعة التي تتخذ من عنصر المفاجأة والمصادفة في الأحداث ما لا يجعلك تشعر بتعب الرحلة في الحدرة، ولا بدواخل نفوس أصحابها بما يكون مكافئًا لحدث جسيم ينقل الشخصية الرئيسة من حالة الحرية إلى حالة العبودية،  فلم يشعر القارئ بالحرج الموجع أو بمشقة السفر التي كان يلزم على المؤلّف أن يضاعف من الوصف -بمستوياته المختلفة- ليبلغ القارئ ورطة مطلق التي جعلته يجازف في الحل الذي عرضه على رفاقه.
 فعنصر الوصف ضعيف لا يبلغ المدى الذي يجعل من الأحداث الكبرى تبلغ ذروتها المنطقية. فكأن الروائي يضمر في نفسه أحداثًا رئيسة مرسومة بعينها، فهو يسعى  ليصل إليها قافزًا حاجز المنطقية المطلوبة.
فموت الناقة (المفاجئ) يلجئ مطلقًا إلى الحرج الشديد فعرض نفسه للبيع، وعثرة سيده (المباغتة) بعد أن اشتراه فورًا؛ تجعل مطلقًا يتلفظ بما يدهش سيده فيسأل عما نطق به؛ فإذا بذاكرة السيد الشيخ حاضرة فورًا لاسترجاع مقتل والد مطلق، وعلمه بتفاصيل ميتة والده واسم قاتله! .
لكنّ القارئ يدهش كيف لحدث غير رئيس أن يزخر بتلك التفاصيل، ويأخذ فوق حقه من الوصف، عندما يدخل ناصر للسوق بحثًا عن مطلق، فيصادف النجف تشهد جنازة لشيخ من شيوخها! .
أخيرًا، كان للرواية أن تكون أشدَّ أسْرًا، وأرسخ في الذاكرة والنفس، وألذّ وقعًا في وصفها؛ لو تهيأ لها الزمان الكافي لتختمر في وجدان صانعها فيكسوها ما يليق بها من الوصف والتفاصيل، والحبكة المتينة.
فعمل توفرت له الفكرة البديعة، والمعرفة التاريخية والجغرافية التي رسمت فضاءه في النفس بدقّة، واللغة السهلة القريبة، رغبت لها أن تستتمَّ جمالها، بمنطقية السرد وإسباغ الوصف الذي كان سيهيئ لها في الذاكرة مكانةً أجمل.
وأنا على ثقة أنّ عملًا يمثّل باكورةً من بواكير الإبداع الروائي عند منشئه؛ ينبئ بموهبة ستتفتق عن قريب بإذن الله بما يكون من الأدب الروائي العربي الذي يُفخر به.
___________
الرقيب الضمني: مصطلح للدكتور سعد البازعي، ورد في محاضرة تحمل المصطلح نفسه، وهو دالّ على حالة القلق والخوف المضمرة لدى الكاتب أو الأديب أثناء إنشائه الرسالة أو النصّ، وذلك القلق لا ينفكّ عن المبدع؛ لكونه يتمثّل المجتمع والمحيط الذي سيتلقى عمله قبل تمامه أو نشره، فالمبدع رهينٌ لناقد مضمر في نفسه قبل أن يتلقاه غيره! .

رأي واحد حول “ (عقدة الحدّار).. والرقيب الضمني!

أضف تعليق